-10.png)
وسّع الإنترنت مدارك الجميع على جميع الأصعدة، فما كان للإنسان إلا الخضوع لقوة وسلطة المعرفة العنكبوتية. وفي حالتي أنا أبن الإنترنت، كان لي وضع خاص وغير واضح الرؤى. تارة أرى في نفسي مصممًا لا يعمل إلا ما يروق له من أفكار تناسبه، وتارة أخرى كاتبًا يهوى صناعة النصوص كمقطوعة موسيقية عذبة لا تطرب إلا من يفهم صدى أنغامها.
مرت أربع سنوات ومنذ ذلك الوقت مررت بأكثر من محطة عمل، وفي كل مرة يتم توظيفي فيها يمر على مخيلتي مشهد التلميذ: "يبدأ عام جديد وتختلف معه المدرسة، في طريقه خلال يومه الدراسي الأول، يجلس في آخر مقعد من الحافلة؛ تقع أنظاره حول الجميع بخوف ورهبة البدايات؛ يتعرف فيها على حقائبهم المدرسية قبل أن يتعرف على وجوههم -عند صعود الطفل، ينحني رأسه للأسفل إلى حين وصوله إلى المقعد وما أن يرفع عيناه حتى تكون أنظار أقرانه إلى الأمام وما يبقى ألا خلفيات حقائبهم-. كل يوم يحاول أن يكسر الحاجز معهم، باختلاف شخصيات الجميع وتفضيلاتهم، كان يستقبل أراء الجميع بكل رحابة صدر وجميع أحاديثهم مسموعة إلا أحاديثه منذ صعوده الحافلة، كل أفكاره معلقة على الحبل في انتظار من يمنحها الإهتمام والتقدير. حتى تصل الحافلة إلى آخر محطة وتطيّر الأفكار من عقله عند أول خطوة في بابها، وما كان له إلا الرحيل إلى مدرسة أخرى في كل مرة عند نهاية المحاولات".
لكن هذه المرة مختلفة تمامًا، في محطة عملي الجديدة؛ تختلف الأمور والثقافات، الناس وطبيعة تفكيرهم، محطتي هذه المرة بيئة عمل مثقفة.
ما هي الثقافة بالأساس؟ وكيف تم إسقاطها على مساحات العمل؟
في المجتمع، تتجرد السلوكيات، أسلوب الحياة والتعامل بين الناس ومعيشة الفرد خلال كل يوم كثقافة مكتسبة؛ سواءً كانت بشكل مباشر أو غير مباش، حيث الثقافة هي فكر يتعلمه الفرد باطلاعه المستمر على الأساليب المختلفة من حوله، وكيفية اختيار أفضل أسلوب حياة يتماشى معه ومع غيره بشكل متساوٍ لا يضر ويضمن التعاون في العيش للطرفين مع راحة وطمأنينة للجميع.
وبإمكاننا التفكير بنفس المنطق على مساحات العمل، في حالة عدم وجود ثقافة تضمن أسلوب مريح في التعامل للجميع، لا يمكن للموظف أن يعمل بإنتاجية عالية وارتباط وثيق بمساحة عمله وبطبيعة الحال لا يمكن للقائد دمج الموظفين وضمان بيئة عمل حقيقية وصحية للجميع.
بعد مرور 28 يومًا على أول يوم عمل في بيئة عمل مثقفة، يمكنني توثيق بعض المفاهيم التي اكتسبتها بشكل تفاعلي وعلى أمل مؤكد أن أمامي أكثر من ذلك:
التوافق: القطعة الناقصة في الأحجيّة
التواصل السليم يُعتبر وسيلة أساسية لبناء اتفاق سليم مع الطرف الآخر. عندما يكون التواصل فعّالًا، يمكن للأشخاص أن يتفاهموا ويتفقوا بشكل جيد. ومع ذلك، إذا كان لدى كل فرد أهداف مختلفة، قد لا يتم التوصل إلى اتفاق يُرضي الطرفين في الغالب. وعلى العكس من ذلك، عندما يتوافق التفكير والرؤى بين الطرفين، يكون هناك فرصة أكبر للوصول إلى اتفاق يرضي الجانبين ويبني علاقة مستدامة تستند إلى الثقة في الأفكار والخطوات المستقبلية.
المنظور المباشر لأي شيء، لا شيء
في عالمنا المزدحم بالأفكار والتراكمات الحسيّة، من الصعب على الإنسان أن يرى كل شيء من عدة أوجه ويدقق في جميع التفاصيل، ونفقد نحن البشر عدة نقاشات وفرص من الممكن أن تكون فرصة العمر! فقط لأننا نتخذ قرارات بناءً على وجه واحد ومنظور ثابت. في بيئة العمل المثقفة، السماح بالأسئلة بشكل سهل وسلس يمنح الموظف الأريحية في أخذ كل شيء من جوانبه المتعددة، يستوعبه وأن يعطي له ردة الفعل والتقدير المناسب له، وبذلك يبني ذلك علاقة ثقة بين الموظف وبيئته من التفكير وأخذ القرارات بشكل حقيقي وموضعي ومناسب له في جميع الأحوال والظروف.
الوضوح خريطة الضائع
في بعض المواقف، يقع الموظف في خطأ الصمت كغريق لا ينادي المساعدة. الوضوح في طلب المساعدة والشرح لأي مهمة مبهمة أمر أساسي وأحد حقوقك كموظف، ولكن الحقوق يجب أن تراعى في مكانها الصحيح وطريقتها الصحيحة، أي طلبك للمساعدة يجب أن يكون بشكل واضح وصريح حتى لا تضيع الوقت على نفسك لإيجاد السبيل الصحيح وعلى غيرك في إنجاز مهامه الأخرى.
كـإنسان أنت الأول في كل معادلة
جميع المشاعر البشرية كالحزن، الفرح، خيبة الأمل والحاجة إلى المساندة، قد يشعر بها الموظف ويعيشها يوميًا، العقل والنفس للفرد قد تحصل فيها عدة تقلبات تمنعه من أداء وظائفه بشكل جيّد وفعّال. إن البيئة المثقفة تحترم الفرد وإنسانيته كإنسان مكون من تفاعلات عقلية ونفسية معقدة ومترابطة ببعضها البعض. وفي نفس الوقت تضمن بيئة العمل أريحية وسهولة في جدولة الأعمال والمهام وأكملها بشكل صحيح، حتى تضمن استمرارية العمل والإنتاجية بما يتناسب مع كل فرد وكل حالة يمر بها عبر فترات مختلفة طوال العمل.
في الخاتمة وهي ليست خاتمة حقيقية بالتأكيد لأن محصلة النقاط في تزايد مستمر ولأنني في رحلة اكتشاف مستمرة لنفسي والتطوير المستمر لها بالتوافق مع البيئة المحيطة بي، أنهي حديثي بأن صورة المرء وتفاعلاته وطريقة تفكيره صورة متطابقة للبيئة الموجود بها، وأن علينا حق تجاه أنفسنا أن نختار بيئة عمل صحيّة ومثمرة، تُقدْر النفس البشرية أولاً وتضعها في مكانها وقيمتها الحقيقة.
